يفترض
ميرلوبونتي أن زمن الأنا ليس معزولا عن زمن الغير، ذلك أن الوجود عنده هو
ضرب من المعية والمشاركة، لأن الغير يتواجد مع الذات في هذا العالم ، إنه
يدرك العالم مثلي ، وإذا كان الامر كذلك فكيف يمكن معرفة هذا الغير؟
إن
معرفة الغير ممكنة بالنسبة لميرلوبونتي عن طريق جسد الغير، لأن هذا الغير
تصدر عنه سلوكات يصبح الجسد حاملا لأثر معبر عن وجود ٠ لكن الإشكال الذي
يطرح ذاته هو كيف يمكن لوعي أن يدرك من الخارج ويوجد في الخارج؟
للجواب
عن هذا الإشكال انطلق ميرلوبونتي من رفضه للنظرة التشييئية للغير،حيث
التمييز بين الشئ في ذاته أي أشياء معروفة، والشئ في ذاته أي وجود الوعي ،
فالموقف الموضوعي من الغير يطرح عدة صعوبات ، لأنه إذا كان الغير أمامي
وجودا في الذات فإنني مضطر إلى تمييزه عني أي وضعه في عالم خارجي ، ثم
التفكير فيه كوعي وهو ذات مفكر فيها وذات مفكرة في آن واحد ٠
خلافا
لهذا التصور الموضوعي يذهب ميرلوبونتي إلى أن الجسد ليس موضوعا كالذي تتحدث
عنه الفيزياء ٠ من هنا يرى أن جسد الغير هو أيضا مسكون بوعي ، لأنه إذا
كان وعيي يمتلك جسما ، لماذا لا يكون لكل جسم آخر وعي كذلك ٠
إن
ميرلوبونتي يميز على مستوى مفهوم الجسد بين مفهوم جسد الغير وفهوم الجسد
الموضوعي كما تتحدث عنه كتب الفيزيولوجيا ، ذلك لكون الجسد الموضوعي لا
يمكن أن يكون مسكونا بوعي ٠ إن ميرلوبونتي يتصور الجسم كأداة إدراك ، أما
على مستوى مفهوم الوعي فيرى أن وعي الغير لا يمكن أن يكون مدركا إلا إذا
كانت تعبيرات الغير قابلة لأن تقارن بتعبيراتي ، في هذا الإطار يقول
ميرلوبونتي :"إن معرفة الغير تقتضي مني التعاطف معه وذلك لأن الغير وعي لا
أستطيع معرفته إلا إذا اعتبرته مثل ذاتي ، وأنه يحس ويفكر ويتصرف تماما
كما أفعل أنا في ظروف مماثلة ٠"
ينتهي ميرلوبونتي بعد تحديده لمفهوم
الجسد والوعي إلى أن" كوجيطو" الغير يجعلني أفقد ثقتي في أن وحدتي يمكنها
أن تجعلني أصل الوجود ، فليس العالم هو ما أفكر فيه بل هو ما أعيش ، فأنا
منفتح على العالم أتواصل معه لكني لا أملكه ٠
إن الذات حسب ميرلوبونتي
تقوم بوظائف سمعية وبصرية وحسية ، وبما أنها كذلك فإنها تتواصل مع الآخرين
، ذلك أن الإنسان إذا كان قد اخترع الآلة واستعملها فإنه باستعماله للغة
يتمكن من معرفة الغير ، لأن اللغة تقوم بدور أساسي في هذا الباب لأنها خروج
من الذات وتوجه نحو الغير، وداخل تجربة الحوار من خلال اللغة تتكون عبر
الأنا والغير أرضية مشتركة . إن الوجود مع الآخرين والتواصل معهم يجعل
العلاقة بين الأنا والغير علاقة أغنى وأكثر تعقيدا ، فنظرة الغير لا تحولني
إلى موضوع ، كما أن نظرتي لا تحول الغير إلى موضوع إلا إذا انسحب كل منا
داخل طبيعته المفكرة ، فحين تقع علي نظرة شخص مجهول فإن ذلك ليس معناه أنها
تحولني إلى موضوع ، وليس معناه غياب التواصل لأن الإمتناع عن التواصل هو
أيضا شكل من أشكاله ، في هذه الحالة يصير التواصل معلقا لا معدوما ٠
خلاصة
أطروحة ميرلوبونتي أن الذات لا تعيش في عزلة ، وأنها ليست غريبة عن
الآخرين ، فأن توجد معناه أن توجد مع الغير . إن أقصى حالات العزلة هي في
نهاية المطاف حوار مع الآخرين